هـذه فصولٌ في العلم، انتقيتها لك -عزيزي القارئ - انتقاءً من كتاب ((صيد الخاطر)) ([1]) للإمام ابن الجوزي -رحمه الله- جعلتها على هيئة فصول، كلُّ فصل تحت عنوان يدل عليه، لعلَّ الله -تعالى- يبعث بها الهمم الراقدة في الطلب ؛ فتحلّق بركب سلفنا الصالح -علماً وعملاً، والله- وحده من وراء القصد .
طلب العلم بِنَهمٍ:
((فأقول عن نفسي([2])- وما يلزمني حال غيري : إنني رجلٌ حُبِّبَ إليَّ العلم من زمن الطفولة، فتشاغلتُ به، ثمَّ لم يحبَّب إليَّ فنٌّ واحدٌ منه ؛ بل فنونه، ثمَّ لا تقتصر همتي في فنّ على بعضه؛ بل أروم([3]) استقصاءه، والزمان لا يسع، والعمر أضيق، والشوق يقوى، والعجز يُقعد، فيبقى وقوف بعض المطلوبات حسرات. ثمَّ إنّ العلم دلّني على معرفة المعبود([4])، وحثني على خدمته، ثمّ صاحت بي الأدلة عليه إليه، فوقفت بين يديه، فرأيته في نعته، وعرفته بصفاته، وعاينت بصيرتي من ألطافه ما دعاني إلى الهَيَمان([5]) في محبته، وحرَّكني إلى التخلي لخدمته، وصار يملكني أمرٌ كالوجد كلّما ذكرته، فعادت خلوتي في خدمتي له أحلى عندي من كلِّ حلاوة، فكلما ملتُ إلى الانقطاع عن الشواغل إلى الخلوة، صاح بي العلم:
أين تمضي؛ أتعرض عني، وأنا سبب معرفتك؟
فأقول له: إنما كنتَ دليلاً، وبعد الوصول يستغنى عن الدليل.
قال: هيهات! كلما زدت؛ زادت معرفتك بمحبوبك، وفهمت كيف القرب منه، ودليل هذا: أنك تعلم غداً، أنك اليوم في نقصان، أوما سمعته [سبحانه] يقول لنبيه -صلى الله عليه وسلّم-:﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:114]))([6]).
احذر التقليد؛ فإنه آفة:
(( …، فأقول: كن مع العلماء، وانظر إلى طريق الحسن، وسفيان، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد، والشافعيّ، وهؤلاء أصول الإسلام، ولا تقلّد في دينك من قلَّ علمه وإن قوي زهدُه، واحمل أمره على أنه كان يطيق هذا، ولا تقتدِ بهم فيما لا تطيقه، فليس أمرنا إلينا، والنفس وديعة عندنا، فإن أنكرت ما شرحته ؛ فأنت ملحق بالقوم الذين أنكرت عليهم. هذا رمز إلى المقصود، والشرح يطول)) ([7]).
الهمّة في طلب العلم:
((كنت في زمان الصّبا([8]) آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج إلى طلب الحديث وأقعد على نهر عيسى، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلّما أكلت لقمةً شربت عليها، وعين همّتي لا ترى إلا لذّة تحصيل العلم؛ فأثمر ذلك عندي أني عُرِفتُ بكثرة سماعي لحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأحواله وآدابه، وأحوال أصحابه وتابعيهم، فصرتُ في معرفة طريقه كابن أجود . وأثمر ذلك عندي - من المعاملة - ما لا يدرك بالعلم، حتى إنني أذكر في زمان الصّبوة، ووقت الغلمة والعزبة قدرتي على أشياء كانت النفس تتوق إليها تَوَقَانَ العطشان إلى الماء الزلال، ولم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي من العلم من خوف الله - عز وجل - .
ولولا خطايا لا تخلو منها البشر، لقد [ كنتُ ] ([9]) أخاف على نفسي من العُجب، غير أنه -عز وجل- صانني وعلمني من أسرار العلم على معرفته، وإيثار الخلوة به، حتى إنه لو حضر معي معــروف([10])، وبـشــر([11]) لـرأيتــهـا زحمــــة)) ([12]).
هذا زمانه، فكيف بزماننا يا طلبة العلم!
((قلتُ: قد غمني في هذا الزمان أنّ العلماء -لتقصيرهم في العلم!- صاروا كالعامة، وإذا مر بهم حديثٌ موضوع، قالوا: قد روي!! والبكاء ينبغي أن يكون على خساسة الهمم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)) ([13]).
نصائح لطلبة العلم عزيزة:
((وللحفظ أوقات من العمر؛ فأفضلها الصّبا وما يقاربه من أوقات الزمان، وأفضلها إعادة الأسحار وأنصاف النهار، والغدوات خير من العشيّات، وأوقات الجوع([14]) خير من أوقات الشَبَع، ولا يحمد الحفظ بحضرة الخضرة، ولا على شاطئ نهر؛ لأنّ ذلك يُلهي، والأماكن العالية للحفظ خير من السوافل، والخلوة أصل وجمع الهمم أصل الأصول! وترفيه النفس من الإعادة يوماً في الأسبوع([15])؛ ليثبت المحفوظ وتأخذ النفس قوة كالبنيان يُترك أياماً حتى يستقر، ثمّ يبنى عليه، وتقليل المحفوظ -مع الدوام- أصل عظيم، وألا يشرع في فنٍّ حتى يحكم ما قبله([16]) ومن لم يجد نشاطاً للحفظ ؛ فليتركه، فإن مكابرة النفس لا تصلح([17])، وإصلاح المزاج من الأصول العظيمة، فإن للمأكولات أثراً في الحفظ([18]))). انتهى المقصود.
وبعد:
فهذه نتف يسيرة جدّاً في العلم([19])؛ ولكن تأتي أهميتها -في هذا السياق الذي أوردته- كونها من إمام مجرّب، خبير، كبير.
هـذا، ومّما ينبغي الإشـارة إليه -هنا- أنّ معرفة الدليل، هي طريقة العلم الأصيل، ((وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: من فارق الدليل؛ ضل السّبيل ولا دليل إلا بما جاء به الرسول)).([20])
وأخيراً: فإن ((مَن رأى أنَّ الغُدُوَّ إلى العلم ليس بجهاد؛ فقد نقص في رأيه وعقله))([21])؛ ((فإن أجلَّ حسنات الدنيا العلم النافع، والعمل الصالح))([22]).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________________________________
الحواشي:
([1]) بتعليق وتحقيق عليّ الطنطاويّ وناجيّ الطنطاوي، (ط. الخامسة 1412 هـ) - دار المنارة للنشر والتوزيع - جدّة - السعوديّة. وطبعة أخرى بتحقيق د. عبدالرحمن البّر - مدرس السنّة وعلومها بكلية أصول الدين والدعوة - جامعة الأزهر- (ط . الثالثة 1419 هـ) - دار اليقين للنشر والتوزيع - المنصورة - القاهرة، ودار القبلتين للنشر والتوزيع.
([2]) والكلام لابن الجوزيّ - رحمه الله - .
([5]) الهيمان : شدّة التعلُّق.
([6]) (ص62) من طبعة دار المنارة، و(ص87، 88) من طبعة دار اليقين، ودار القبلتين.
([7]) (ص195) من طبعة دار المنارة، (ص 299، 300) من طبعة دار اليقين، ودار القبلتين
([8]) وقد ذكر أن ذروة التحصيل في زمن الصّبا من سن (5 - 15) سنة في غير موضعٍ من كتابه .
([9]) استدرك من طبعة دار اليقين، ودار القبلتين.
([12]) (ص213) من طبعة دار المنار، (ص 324، 325)، من طبعة دار اليقين والقبلتين .
([13]) (ص 264) من طبعة دار المنارة، (ص 400) من طبعة دار اليقين .
([14]) قال المعلق على طبعة دار المنارة : ((يريد ما بين الطعامين لا وقت الجوع الشديد)).
([15]) أقول: هل لطلبة العلم برنامج في الإعادة، أم هو التحصيل فقط؟!
([16]) وهذا عكس ما يقع فيه الكثير -حتى من طلبة العلم-، حتى إن بعضهم ليشرع في كتابٍ دون كتابٍ، فضلاً عن إحكام فنّ ثمّ الانتقال لغيره! فيا لضياع الهمم.
([17]) وقد تصلح؛ لكن مع الترويض الشديد والصّبر.
([18]) (ص 167) من ط. دار المنارة، و(ص 257) من ط. دار اليقين.
([19]) وإلا فإنّ حصر الأدلة من الكتاب والسنّة الصّحيحة أمر يطول، وإنما القصد -هاهنا- الإشارة فقط.
([20]) تضمين من كتاب ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/304)، ط. دار ابن عفان.
مجلّة الأصالة (28/41-32)